جدول المحتويات
Toggleشرح حديث النبي ﷺ: من كانت الاخرة همه
(من كانت الاخرة همه جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ)
هذا الحديث النبوي الشريف يحمل معاني عظيمة تتعلق بأولويات الإنسان في الحياة الدنيا وعلاقته بالآخرة.
في هذا المقال، سنقوم بتحليل الحديث من حيث صحته، معناه اللغوي، شروحه عند العلماء، دلالاته الفقهية، دروسه الروحية، وعلاقته بالقرآن وأحاديث أخرى.
1. دراسة السند وصحة الحديث
أ- تخريج الحديث ومصادره
ورد هذا الحديث بعدة طرق، منها:
- رواه الترمذي (حديث رقم 2465) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
- رواه ابن ماجه (حديث رقم 4105) بنفس المعنى.
- رواه الإمام أحمد في مسنده (حديث رقم 20707).
ب- درجة الحديث عند العلماء
قال الإمام الترمذي: “حديث حسن صحيح”، ووافقه الألباني في “صحيح الجامع” (6510).
أما ابن حجر العسقلاني، فذكر في “فتح الباري” أن إسناده جيد.
وبناءً على دراسة السند، فإن الحديث “صحيح” وهو مقبول في الاستدلال الشرعي.
2. التحليل اللغوي والسياقي للحديث
أ- تفسير المفردات اللغوية
- (من كانت الآخرة همه): أي جعل شغله الشاغل وهدفه الأسمى هو الآخرة، فكل أفعاله تدور حول الاستعداد لها.
- (جعل الله غناه في قلبه): أي أن الله يمنحه قناعة ورضا داخلي، فلا يكون فقير النفس مهما قلّ رزقه.
- (وجمع له شمله): أي أصلح أموره، وجعلها مترابطة غير متفرقة.
- (وأتته الدنيا وهي راغمة): أي أن الدنيا ستأتيه مذلولة وخاضعة، دون أن يسعى وراءها بجشع.
- (ومن كانت الدنيا همه): أي من جعل همه وشغله في الدنيا دون اعتبار للآخرة.
- (جعل الله فقره بين عينيه): أي يعيش في حالة من القلق المستمر، والشعور بالنقص الدائم.
- (وفرّق عليه شمله): أي شُتتت أموره ولم يجد بركة في رزقه.
- (ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدر له): أي مهما سعى وراء الدنيا، فلن يحصل إلا على ما قسمه الله له.
ب- السياق التاريخي للحديث
هذا الحديث قيل في سياق ترغيب الصحابة في الآخرة، وتحذيرهم من الانشغال بالدنيا على حساب الدين، لا سيما أن البيئة المكية والمدنية في زمن النبي ﷺ كانت تموج بالاختبارات بين الزهد في الدنيا والركون إليها.
3. شروح العلماء للحديث
أ- شرح الإمام النووي
قال في “شرح رياض الصالحين”: “هذا الحديث يؤكد على مبدأ القناعة وحسن التوكل، فمن جعل غايته الآخرة، كفاه الله همّ الدنيا، ومن جعل الدنيا همّه، ابتلاه الله بالقلق والتشتت.”
ب- تفسير ابن القيم
يقول في “مدارج السالكين”: “القلوب التي تتعلق بالدنيا تعاني من القلق وعدم الاستقرار، أما القلوب التي تتعلق بالآخرة فتعيش في سكينة وطمأنينة.”
ج- كلام ابن تيمية
في “مجموع الفتاوى”: “الدنيا لا تأتي إلا لمن زهد فيها، أما من طمع فيها فتبقى هاربة منه.” وهذا يطابق معنى الحديث تمامًا.
4. الفقه والاستدلال الشرعي بالحديث
أ- مفهوم التوكل والقناعة في الفقه
- المال ليس مذموماً في ذاته، لكن الاهتمام المفرط به على حساب الدين مذموم.
- الحديث يدعو إلى التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، وهو مبدأ متفق عليه عند الفقهاء.
- يدل الحديث على أن النجاح الحقيقي ليس بكثرة المال، بل بالبركة فيه.
ب- تطبيق الحديث في الفقه الإسلامي
- عند الحنفية: يرون أن الرضا بما قسمه الله هو مفتاح السعادة الحقيقية.
- عند المالكية: الحديث يدل على أن بركة المال في الرضا به، لا في كثرته.
- عند الشافعية: استدلوا به على أن الانشغال الزائد بالدنيا يؤدي إلى القلق وعدم الراحة.
- عند الحنابلة: يرون أن الحديث يعزز مفهوم الزهد المشروع، دون دعوة إلى ترك العمل.
5. الدروس الروحية والأخلاقية من الحديث
أ- قوة العلاقة بين القلب والرزق
- القناعة تأتي من القلب، وليس من حجم الثروة.
- الفقر الحقيقي هو عدم الرضا وليس قلة المال.
ب- أهمية تحديد الأولويات
- من يجعل الآخرة أولويته، تكفيه الدنيا ولا يُحرم منها.
- من يجعل الدنيا أولويته، يفقد راحة القلب، حتى لو حصل على المال.
ج- التوازن بين الدنيا والآخرة
- الحديث لا يدعو إلى ترك الدنيا، لكنه يحدد ترتيب الأولويات.
- المطلوب هو استغلال الدنيا من أجل تحقيق الآخرة.
6. ارتباط الحديث بالقرآن والسنة
أ- آيات قرآنية تؤيد معنى الحديث
- ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: 2-3).
- ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77).
ب- أحاديث أخرى في نفس المعنى
- حديث النبي ﷺ: “لو أن ابن آدم أعطي واديًا من ذهب، أحب أن يكون له واديان” (رواه البخاري ومسلم).
- حديث: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس” (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني).
الخاتمة
حديث “من كانت الاخرة همه جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ“ من الأحاديث العظيمة التي تبين الفرق بين طلب الدنيا وطلب الآخرة.
فمن يسعى للآخرة يرزقه الله القناعة والبركة، أما من يجعل الدنيا همه، فإنه يقع في الهم والقلق. هذا الحديث دعوة لتوازن حياتنا بين السعي للدنيا والاستعداد للآخرة.

0 Comment